الأحد، 15 مايو 2016

خطبة عن الإسراف والتبذير

الحمد لله الذي أنشأ خلقه وبرى، وقسم أحوال عباده غنًى وفقْرا، سبحانه فهو الذي أجرى على
الطَّائعين أجْرا، وأسدَل على العاصين سترا، سبحانه يعلم ما في اللَّيل وما تحتَ الثَّرى،
ولا يَغيب عن علمِه دبيبُ النَّمل في اللَّيل إذا سرى،
سبحانه سبَّحت له السَّموات وأملاكُها، و النُّجوم وأفلاكُها، والأرض وسكَّانُها، و البِحار وحيتانُها،
وأشهد أن لا إله إلا  الله وحده لاشريك له خلق الأرض والسماوات العُلَى
وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيُّ المُجتَبَى، والرسولُ المُرتضَى، والحبيبُ المُفتدَى
صلى الله وسلم وبارك عليه , وعلى آله وأصحابه أهل البرِّ والتُّقَى
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
عباد الله
أحدثكم اليوم عن موضوع نشترك جميعًا في بغضه ، ونتشارك جميعا في بقائه، نعترف فيه
بخطئنا، وتغلبنا عليه عاداتنا، يمارَس الخطأ فيه من قبل الرجال والنساء، والكبار والصغار،
وتسري آثاره في الحضر والبوادي، نزاوله ونحن له كارهون، وننتقده ونحن له فاعلون!! ينهى
عنه ديننا، وتعجُّ به دنيانا،
تُرى أي ظاهرة تلك التي بلغت مبلغها من الحرج في حياتنا، حتى أصبحت على حساب آخرتنا
إنه ياعباد الله  الإسراف .. بكل صوره وأشكاله ,وبكل أنواعه وأنماطه
إسراف  في المطعم والمشرب، إسراف في الملبس والمسكن، إسراف في الكلام  ,إسراف في
المدح أو الذم، إسراف في السهر والنوم، إسراف في المناسبات والأفراح، اسراف في إهدار
الطاقات وإضاعة الأوقات، إسراف  في نقد الآخرين، إسراف في  تزكية الذات، إسرافٌ حسي،
وإسراف معنوي، إسراف ظاهر  وإسراف خفي... إلى غير ذلكم من مظاهر الإسراف الأخرى
والمصيبة أن مثل هذه الظواهر، أو بعضها يقع فيها المتعلم والأمي، ولا يكاد ينجو منها أحد
ويتحسر لها العقلاء ولكنهم واقعون في شراكها! ويبلغ الحرج مبلغه فيها حين يتحدث المتحدثون
محذرين عنها ، وهم –كغيرهم من الناس- في المحذور واقعون فيها !
 ولكنها قضية لا بد أن نصارح أنفسنا  بها، ولا بد أن نتعاون جميعًا في تشخيصها وعلاجها،
ونرفع أكفَّ الضراعة لمولانا للعفو عن أخطائنا، وإعانتنا على إصلاح أحوالنا
: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)  (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)
عباد الله
إن المتأمل في نصوص الشريعة الغرَّاء يجدها ناصعة البيان في النهي عن الإسراف
والتبذير والأمر بالتوسط والاعتدال، فلا تُغلُّ الأيدي إلى الأعناق بخُلاً وتقتيرًا، ولا تُبسط كلَّ
البسط إسرافًا وتبذيرًا: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً
مَحْسُوراً) [الإسراء: 29]، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)

والمشكلة عندنا –أحيانًا- عدمُ التفريق بين ما أمر به الإسلام، وبين ما نهى عنه ، وتختلط الأمور
في حساباتنا  فلا نكاد نُفرق بين كرم الضيافة والإسراف ، ومابين بين أخذ الزينة والخيلاء،

ولذا ياعباد الله ... نذكر
بعض صور وأشكال الإسراف عندنا ومن أمثلته في
واقعنا المعاصر ... ثم نذكر الحلول والعلاج لهذا الداء الخطير علينا في ديننا ودنيانا

فمن مظاهر الإسراف عندنا
.1 الإسراف في المآكل والمشارب، وقد نهى الله عزوجل عن ذلك فقال تعالى  (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(
وما أكثر ما يقع ذلك خصوصا في المناسبات والولائم
فتوضع على سفرة الطعام أنواع الأطعمة التي تفيض بها مؤائدنا ,وتزيد الكثير الكثير عن حاجتنا
مع أن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من الإسراف فيه , وأمرنا بالتقليل من الأكل
فقال: ( مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ (يعني يكفي أبن آدم ) أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ  كَانَ لَا مَحَالَةَ (إِنْ كَانَ لَا بُدَّ) فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ) رواه الترمذي وصححه الألباني
فكان يرغب أصحابه ويحث أمته على ذلك
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه
أن النبي صلى الله عليه وسلم  أضاف كافرا , يعني هذا الكافر أصبح ضيفا عند النبي صلى الله
عليه وسلم , فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت له , فشرب حليبها , ثم أمر له بأخرى
فشرب حليبها , ثم أمر له بثالثة فحلبت وشرب حليبها , حتى شرب حليب سبع شياه
فلما أصبح أسلم هذا الرجل , وشهد أن لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله
فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت وشرب حليبها , ثم أمر بأخرى , فشرب قليلا منها وروي
فقال النبي صلى الله عليه وسلم
«إن المؤمن ليشرَبُ في معِيٍّ واحد، والكافر يشرَبُ في سبعة أمعاء»؛ أخرجه مسلم.

فعلينا عباد الله ,, أن نحذر من الأسراف في الأكل والشرب , وأن نتقى الله عزوجل في مناسباتنا وولائمنا , وأن لانتباهى ونتفاخر بالإسراف في هذا الأطعمة

ومن مظاهر الإسراف في واقعنا اليوم
2. الإسراف في الملابس، ومجاوزة الحد المعقول في ذلك ، وبذل الأموال الطائلة فيها ، والتكثر
منها وخصوصا في أوساط النساء ومن تتبع الماركات والموضات  , والهوس والشغف فيها
وصرف الأموال الطائلة في الماركات باهظة الثمن
3. – وكذلك الإسراف في المساكن والبيوت، ومجاوز الحد في ذلك , والتكلف فيها
وفي بناءها , وأثاثها
ولاشك أن البيت نعمةٌ من نعم الله {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80].
ولا بد للمرء من بيت يسكنُه، لكن تجاوز البعضُ حد الحاجة وأسرفوا في الكماليات والتكلفات
المكلفة، وزادوا الطين بلة إذا كان ذلك عن طريق الديون والقروض.
4- ومن صورالإسراف في مجتمعنا الإسراف  في المراكب، فصار الكثير يشتري سيارة جديدة فاخرة مهما كان مستواه ودخله، ويكلف نفسه الكثير من الديون

5- وكذلك الإسراف في الأعراس، وفي حفلات الزواج  وهذا من أوضح ما يتجلى فيه الإسراف
في المجتمع، بدءا من المهور الباهظة،
مرورا بالولائم التي ينفق فيها الأموالُ الطائلة على قصور الأفراح، والتفاخر بالذبائح وأنواع
الطعام والشراب والحلويات والمعجنات، والورود والزينة، والزفة والطرب، وغير ذلك، مما
تذهب فيه عشرات الآلاف في ساعات معدودات.

الحمد لله ,, وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
عباد الله
إذا كان لدينا إسراف حسي، فلدينا أيضا إسراف معنوي، وهو لا يقل عن سابقه خطراً.
ومن مظاهر إسرافنا المعنوي الإسراف في الحديث،والكلام ويتمثل هذا  في كثرة الحديث فيما لا
يعنينا، مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
ونتساهل في رواية الأخبار، وبضاعاتنا كلمة : (يقولون) ( وسمعنا )

والمصيبة أدهى حين يكون حديثنا غيبة أو نميمة أو ظلماً وعدواناً، أو منكراً وسخرية
أو كذباً وزورا ؛ ولاتخفى عليكم الآيات والأحاديث في التحذير من ذلك
عباد الله
ومن صور الإسراف المعنوي أيضا
الإسراف في المدح والثناء للبعض , بما هو واقع وغير واقع، ومجاوزة الحد في ذلك
مع أن النبي صلى الله عليه وسم قال  "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب" رواه مسلم
وكما عند البعض إسراف في المدح , فعند البعض الآخر إسراف في الذم إلى درجة أن ينسى كل فضيلة للمذموم , ولايذكر أي منقبة أو خير فيه
وهذا خلاف العدل الذي أرشدنا الله عزوجل إليه، و خلاف العدل الذي أمرنا الله به في القول:
قال تعالى(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)

يا أخا الأيمان :
عدد ماشئت من مظاهر الإسراف في حياتنا حسا أو معنى , فلن تجد لها حصرا
لذا لابد من علاجها , وإيجاد حل لها ,
وإليكم ياعباد الله بعض طرق العلاج لهذه المشكلة

أولا: لا بد -أولاً- من الشعور بالمشكلة، وإدراك أننا فعلا واقعون في الإسراف
ولا بد من تهيئة النفوس للخلاص منها.
ثانيا: تقوى الله عزوجل وطاعته فيما أمر أو نهى هي سبيل للخلاص من الإسراف والله يقول:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)
ثالثاً: ولا بد من اليقين بأن هذا المال الذي بين أيدينا هو  مال الله استودعنا إياه، وسيحاسبنا عليه؛
ولن تزول اقدامنا يوم القيامة حتى نسأل فيما أنفقنا ...فويل للمسرفين

رابعاً: ولو استشعر المسرف أنه بإسرافه يُشابه الشياطين ويشاكلهم لتوقف في إسرافه، قال تعال:
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء:27] قال المفسرون:
إخوان الشياطين: أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته.
خامسا: تقييد النعمة وشكر المنعم ...  يمنع الإسراف ويزيد النعم: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]، (اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ) [سبأ:13].
سادسا : ومما يعينك -يا أخا الإسلام- على الاقتصاد وترك الإسراف تَذَكُّرُ حال إخوانك
المحتاجين، وهل يطيب لك الإسراف وغيرك يبحث عن الكفاف؟.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق