الأحد، 15 مايو 2016

خطبة أصحاب الكهف - عبدالرحمن المقيبلي

الحمدُ للهِ الخَلاَّقِ العَلِيمِ، الرَّزَّاقِ الكَرِيمِ؛ خَلَقَ الخَلْقَ فَدَبَّرَهُمْ واخْتَصَّ المُؤمِنينَ وَفَضَّلَهُم,
نَحمَدُهُ حَمْدَا كَثِيرَا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرَا مَزِيدَا، ونَشهَدُ ألَّا إِلهَ إلَّا اللهُ وحده لا شَرِيكَ لَهُ تَمجِيداً لَهُ وَتَوحِيدَا؛ ونَشهَدُ أنَّ مُحمَّدَا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ،
صلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ وَعلى آلِهِ وأَصحَابِهِ,وسلم تسليما مزيدا
أما بعد فاتقوا الله عباد الله  حق التقوى، واستمسكوا  من دينكم  بالعروة الوثقى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
عباد الله
لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة  , ودعا إلى عبادة الله تعالى وحده , وترك عبادة
الاصنام حاربه كفار قريش بكل طريقة, وعذبوا الصحابة رضي الله عنهم بكل وسيلة
ولكن هذا التعذيب , وهذا التنكيل , لم يزد الصحابة رضي الله عنهم إلا ثباتا على الدين
ولم يزدهم إلا محبة لله عزوجل , ومحبة لنبيه صلى الله عليه وسلم
فحتارات قريش ماذا تصنع , ماذا تفعل , كيف تحارب هذا الإسلام ,
فاجتمعوا وتشاورا في الأمر , ورأوا أن أسلوب التعذيب والتنكيل لم ينفع ولم ينجح في حرب
الإسلام .......ورأوا أنه من المناسب أن يحارب الإسلام فكريا وعلميا
فأرسلوا رجلان من كبار قريش هما النضر بن الحارث , وعقبة بن أبي معيط أرسلوهم إلى علماء اليهود في المدينة , وذلك قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إليها
فخرج الرجلان حتى وصلا المدينة  وقابلوا أحبار اليهود , فذكروا لهم حال النبي صلى الله عليه
وسلم , وصفته وأخباره ................فقال اليهود :
سلوه عن ثلاث مسائل , لايعرفهن إلا نبي  ،. فإن أخبركم بذلك، فهو نبي مرسل فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم
فقال النضر بن الحارث : ماهن
فقالوا : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم،
 وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟
فرجع النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى دخلا مكة , وهما فرحين مستبشرين بهذه
الأسئلة , فلما وقفا على قريش  قالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد،
ثم أقبلوا على النبي صلى الله عليه وسلم في جمع من الناس
وقالا يامحمد : إنا سائلوك عن ثلاث مسائل , فإن أجبت عنها , ايقنا أنك نبي , وإن لم تجب عنها
نظرنا فيك شأننا ............. فقال النبي  صلى الله عليه وسلم : مالخبر , سلوا
فقالوا  : أخبرنا، عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم،
وأخبرنا عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما نبؤه؟ وأخبرنا  عن الروح ما هو؟
فمن شدة فرح النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : أخبركم غدا عما سألتم عنه ولم يقل إن شاء الله
فلما كان من الغد , لم ياتيه الوحي من السماء , ولم يأتيه جبريل بالوحي
, ومضى اليوم الأول واليوم الثاني والثالث , حتى مضى خمس عشرة يوما لم يأتيه خبر
ففرح الكفار بهذا الأمر , وأرجفوا بأهل مكة , وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم
فلما اصبحوا بعد خمس عشرة ليلة , جاء الجواب , وأنزل الله عزوجل سورة الكهف العظيمة
تجيب عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر الأول  أصحاب الكهف
وعن ذي القرنين , الرجل الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها

هذه السورة العظيمة.. التي نقرؤها كل جمعة
والتي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم
 (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين) رواه الحاكم وصححه الألباني.
وقال  صلى الله عليه وسلم( من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق) رواه البيهقي وصححه الألباني.
فهي سورة عظيمة .. مليئة بالعظات والعبر, والمواقف والاحداث والنصائح والتوجيهات
عباد الله
سميت هذه السورة بسورة الكهف  , نسبة إلى أصحاب الكهف
فمنهم أصحاب الكهف , وماخبرهم , وماهي قصتهم , وما هي مكانتهم
حتى يخلد الله عزوجل ذكرهم  وحتى يسمي سورة باسمهم تتلا إلى يوم القيامة
قال ابن كثير رحمه الله وغيره من المفسرين

أن ملكاً جباراً يسمى (دقيانوس) وكان ملك فاجرا مشركا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام،
وإلى الشرك بالله تعالى  فاستجاب له كثير من الناس , وأشركوا بالله تعالى
ولكن كان هناك فتية مؤمنون , شباب مؤمنون , لم يرضوا بهذا الشرك
وانكروا فعل قومهم وصنيعهم من السجود للأصنام  , والذبح لها
فغضب الملك الكافر عليهم , وطلبهم , فلما وقفوا بين يديه
لم يتزعزع إيمانهم , وربط الله على قلوبهم   حتى وصف الله عزوجل حالهم بقوله
(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا
إِذًا شَطَطًا) من دعا مع الله أحد فقد قال قولا شططا : أيْ باطلاً وكَذِباً وبُهتاناً
فتفاجئ بقوة كلامهم , وصدق إيمانهم , ولكنه رأى حداثة سنهم
فقال لهم : إنكم فتيانٌ حديثةٌ أسنانكم، وقد أخّرتكم إلى الغد لتروا رأيكم
فلما أتى اليل اجتمعوا, ورأوا أنه من المناسب أن يفروا بدينهم من بطش هذا الجبار
وأن يخرجوا (مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا)
وبالفعل خرجوا من ليلتهم هاربين بدينهم , معتزلين الفتنة وأهل الشرك والضلال
وهكذا المسلم يعتزل الفتن ويعتزل المفسدين دائما , ويترك من كان يغويه ويدله على طريق الشر والفساد
سار هؤلاء الفتية المؤمنون تحت جناح الظلام خائفون أن يكتشف أمرهم وقيل أنهم مروا على
راعي غنم  معه كلب فتبعهم هذا الكلب ، ساروا ليلتهم
حتى وصلوا إلى غار في جبل إلى كهف في جبل فدخلوه  , وهم يدعون الله عزوجل أن يرحمهم , وأن يهيء لهم من أمرهم رشدا
قال تعالى (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا(
فهم يدعون الله أن يرحمهم وأن ييسر أمرهم , ويصلح دينهم ودنياهم
فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة , وبين تضرعهم إلى الله عزوجل , فلم يتكلوا على أنفسهم
ولا على أحد من الخلق , بل اعتمدوا على الله عزوجل
فاستجاب الله عزوجل لهم , وأنقذهم من الكفار بأمر لم يكن في حسبانهم , وبشيء لم يخطر على
بالهم إذا أنزل الله عزوجل عليهم النوم
قال تعالى   (فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا)
أي أنمناهم نومة طويلة  ثقيلة لا يتنبهون لصوت ولايسمعون  لداعي ,
وناموا في كهفهم قال تعالى  (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)
ناموا في هذا الكهف أكثر من ثلاث مائة سنة
وسخر الله عزوجل لهم الله الشمس فإذا طلعتْ تميلُ عن كهفِهم يميناً .. وإذا غربت تميلُ عنه
شمالاً .. فلا ينالهُم حرُّها فتتأذى أبدانُهم بها .
كما قال تعالى (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ
الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)
بل إن الله عزوجل جعلهم في هذه النومة العظيمة العجيبة
جعل أعينهم مفتوحة كأنهم لم يناموا , قال تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)
قالَ أهلُ التفسيرِ: كانتْ أَعْيُنُهُمْ مَفْتُوحَةً، لئَلا تَفسَدُ، والناظرُ إليهم يحسَبُهم أيقاظاً، وهم رُقودٌ ..
وجعل الله عزوجل يقلبهم في رقدتهم على الجهتين (ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ)
 لِئَلَّا تَأْكُلَ الْأَرْضُ أَجْسَادَهُمْ
مع أن الله عزوجل قادر على حفظهم من الأرض من غير تقليب
لكنه سبحانه وتعلى اراد أن تجري سنته في الكون , وأن يربط الأسباب بمسبباتها
أما كلبهم الذي معهم فجعله نائما على فتحة الكهف مادا يديه
قال تعالى  (وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) الوصيد هو فتحة الكهف
وحماهم الله عزوجل من البشر لا أحد يأتيهم , حماهم بالرعب
فمن اقترب من كهفهم ملأ الله قلبه رعبا , وولى فارا
قال تعالى (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا)

وبعد هذه النومة الطويلة , أيقضهم الله عزوجل من نومهم
قال تعالى (وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ)
لما استيقضوا من النوم أخذ بعضهم يسال بعض (كَمْ لَبِثْتُمْ) يعني كم رقدتم
( قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ( هذه الثلاث مائة سنة مرت عليهم كأنها يوم
أو بعض يوم , فاشكالهم لم تتغير , وهيئتهم لم تتبدل , وبشرتهم وأظفارهم لم تزد
لكنهم شكوا في كثرة النوم , فلما اختلفوا ردوا العلم إلى الله عزوجل (قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)
ولكنهم بعد ما استيقضوا شعروا بالجوع والعطش
ولهذا قالوا :
(فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ
وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا)
فأرسلوا أحدهم بالورق الذي كان معهم , والورق هو الفضة , وطلبوا أن يأتي بأزكى طعام أي
أطيب طعام , ولذلك قال أكثر المفسرون أن هؤلاء الفتية كانوا من أبناء الأغنياء لأنهم أمروا بأزكى الأطعمه
ونبهوه أن يتطلف وأن لايشعر ولايخبر بمكانهم أحد
خرج هذا الفتى من هذا  الكهف بعد أكثر من ثلاث مائة سنة (قامت دول وسقطت دول , وفنت أجيال , وبادت أمم)
فنظر هذا الرجل لما خرج من هذا الكهف فإذا الديار قد تغيرت , وإذا البلاد قد تبدلت
فانكر الطريق , واستنكر البيوت , واستغرب الناس
فهو لا يعرف احد منهم , وهذه قريته , قد ذهب منها البارحه , فاصبح يسأل نفسه مالذي حصل
لي  لعلي بي جنونا أو مسا أو انا أحلم , ثم قال لنفسه الأولى لي ان تعجل  فتوجه لرجل يبيع
الطعام واشترى منه طعاما ثم اعطاه النقود الفضة التي كانت معه فجعل البائع يقلب هذه النقود في
يده ويقول: من أين حصلت على هذه النقود؟ واجتمع الناس، وأخذوا ينظرون لتلك النقود
ويعجبون، ثم قالوا: من أنت يا أخي؟ لعلك وجدت كنزاً؟ فقال: لا والله! ما وجدت كنزاً، إنها
دراهم قومي! قالوا له: إنها من عهدٍ بعيدٍ، ومن زمن الملك دقيانوس، قال: وما فعل دقيانوس؟ قالوا مات من قرون عديدة.
ثم قالوا له ماخبرك ؟ ماعلمك ؟ ..............فأخبرهم القصة وقال لهم
: لقد كنا فتيةً وأكرهَنا الملك على عبادة الأوثان، فهربنا منه عشية أمس (البارحه)  فأوينا إلى الكهف، وأرسلني أصحابي اليوم لأشتري لهم طعاماً؛ فانطلِقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي.
فتعجَّبوا من كلامه، ورفعوا أمره إلى الملك -وكان مؤمناً صالحاً- فلما أخبر الملك بقصته ,
تعجبوا من حديثه , ثم خرجوا جميعا الملك وأهل البلد خرجوا مع هذا الفتى , وانطلقوا إلى
الكهف فلما وصلوا الكهف قال لهم : دعوني أتقدمكم في الدخول حتى اخبر أصحابي بكم , فدخل
ورئاهم الملك ورئاهم أهل البلد ..... ثم ألقى الله سبحان على هؤلاء الفتية  أهل الكهف ألقى عليهم النوم ثم قبض أرواحهم
لتتحق آية البعث ,
(وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا)
فيا لها من قصة عظيمة تحمل الكثير من العظات والعبر

الحمدلله  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن  محمدًا عبدُه ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله
هذه هي قصة أصحاب الكهف , قصة التضحية من أجل الدين
فنسال الله عزوجل أن يوفقنا لجميع لكل خير , وأن ينصر ديننا




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق