الثلاثاء، 29 سبتمبر 2015

خطبة عن بر الوالدين

الحمدلله الذي أنشأ خلقه وبرى , وقسم أحوال عباده غنى وفقرا , وأنزل الماء وشق أسباب
الثرى،
 نحمده سبحانه وتعالى فهو الذي أجرا على الطائعين أجرا , وأسدل على العاصين سترا ,  يعلم مافي الليل وماتحت الثرى ,  ولايغيب عن علمه دبيب النمل في الليل إذا سرى
سبحانه نصب الجبال فأرساها, وأرسل الرياح فأجراها, ورفع السماء فأعلاها, وبسط الأرض فدحاها
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ,  وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ  النبيُّ المُجتَبَى،
والرسولُ المُرتضَى، والحبيبُ المُفتدَى، صلِّ الله  وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحابه أهل البرِّ والتُّقَى
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى
 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
عباد الله
أحدثكم اليوم عن موضوع , لا أدري كيف أتحدث عنه , ولا أعلم بأي شيء أبدأ به ,
واحترت بطريقة الكلام فيه , هَلْ أَتَكَلَّمُ بُلُغَةِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ ؟ أَمْ أُلْقِيهِ بِهَيْئَةِ النِّذَارَةِ وَالتَّبْشِيرِ ؟
لأنه والله مَوْضُوعٌ جَدِيرٌ بِالْعِنَايَةِ , جدير بالإهتمام , يهم الكبير والصغير
وهو أمر قد فَرَضَهُ رَبُّ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ , وَجَعَلَهُ قُرْبَةً مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ ,
وَ سَبِيلَاً لِلْفَوْزِ بالْجَنَّاتِ ,
إنه وربي موضوع ....  بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ......  حَقُّ الأُمِّ الْحَنُونِ وَجَزَاءُ الأَبِ الكريم
فَقُولُوا لِي بِرَبِّكُمْ كَيْفَ نُوَفِّي هَذَا الْمَوْضُوعَ حَقَّهُ ؟ وَقَدْ تَكَاثَرَتْ فيه الآيَاتُ الْقُرْآنِيَّة والأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّة , وَأَفَاضَ فِيهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ الذِينَ هُمْ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ خَيْرُ الْبَرِيَّة !
وَلَكِنْ حَسْبُنَا أَنْ نُورِدَ عِبَارَاتٍ عَلَى سَبِيلِ التَّذْكِيرِ , وَنذكر كَلَمَاتٍ قليلةِ تغني عن كثير من التعبير
عباد الله
يقول ربنا جلا وعلا (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا)
وَقَالَ تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا)
فلعظم حقهما قرن الله حقه بحقهما   لِيَدُلَّ عَلَى تَعْظِيمِ حَقِّ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ
وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم في حقهما ( هما جنتك ونارك) (الزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما)
و قال أيضا : ((رَغِمَ أَنْفه، ثُمَّ رَغِمَ أنفه، ثم رَغِمَ أنفه مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ - أَحَدُهُمَا أَوْ كلاهما - فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ)) رواه مُسْلِمٌ
بل جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد صحبتة والجهاد معه ....
جاءه من اليمن على بعد الطريق ومشقته يصعد به جبل ويهبط به واديا
حتى وقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم  فقال يا رسول الله قد هاجرت

فما هو اول سؤال ساله النبي صلى الله عليه وسلم  لهذا الرجل..هل قال له هل احضرت سلاحك معك؟؟؟...هل سبق ان دخلت معارك؟؟؟...هل تدربت على القاتل؟؟
لا لم يسأل عن شيء من ذلك , وسأله عن أمر أهم واعظم من ذلك
فقال له   (هل باليمن أبواك). قال: نعم. قال: (أأذنا لك)؟ قال: لا.
قال: (ارجع إلى أبويك فأستأذنهما فإن أذنا لك وإلا فبرهما)

فما أعظم بر الوالدين , كيف لا وهم من كان سبب في وجودك بعد الله , ومهما فعلت ومهما عملت لاتستطيع مكافئتهما , كم ضحوا من أجل إسعادك , وكم سهروا من أجل راحتك


ولقد كان الصالحون يتسابقون في بر الوالدين , ويتقربون إلى الله عزوجل ببرهم لوالديهم
((ففي حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل
فسدته عليهم، فقالوا: إنَّه لا يُنجيكم من هذه الصَّخرة إلاَّ أن تدعوا الله بصالِح أعمالكم، فقال رجُل
منهم. اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا وكان لي صبية
صغار فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي وإنه نأى، بي طلب الشجر يوما،
فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت غبوقهما كما كنت أحلب فجئت فوجدتهما نائمين
فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما والصبية
يتضاغون عند قدمي ( يصيحون من الجوع)  ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر ,
اللهم إن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه , من هذه الصخرة ,
فسبحان الله حدث الأمر الجلل  والكرامة الخالدة فتحركت الصخرة  وانفرجت قليلا  غير أنهم لايستطيعون الخروج
ثم دعا  الثاني وذكرعفته عن الزنا ، ثم دعا الثالث وذكر تنميته لمال أجيره فانفرجت عنهم الصخرة كلها وخرجوا يمشون)
فما أعظم بر الوالدين ,
واعلموا يامعاشر البارين بآبائهم وأمهاتهم أن بر الوالدين
 سعادة في الدنيا , وزيادة في العمر , وبسط في الرزق , وانشراح في الصدر وطيب في الحياة
قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)
وبر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله , والوالدان هم أحق الناس بحسن الصحبة
و(رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ(
أطع الإله كما أمر***واملأ فؤادك بالحذر
وأطع أباك فإنه***ربّاك من عهد الصغر
واخضع لأمك وارضها***فعقوقها إحدى الكبر
عباد الله
ذكر أنه كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه .... كان هناك شاب صالح بار بوالديه
اسمه كلاب بن أميه ابن اسكر الكنانى , وكان شاب حريص على الخير
وفي أحد الأيام في طرقات المدينة لقي كلاب الصحابي الجليل  طلحه ابن عبيد الله ,
 فسأله / عن اى الأعمال أفضل في الإسلام قال: الجهاد في سبيل الله فذهب كلاب  إلى أمير المؤمنين  عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فقال له : ارسلنى إلى الثغور,,, يعني  أماكن الجهاد في سبيل الله
فقال له عمر رضي الله عنه :أعندك والدان؟؟ قال: نعــــم قال:اذهب واستأذنهما ... فذهب كلاب  إلى أمه وأبيه , وجعل يحاول فيهما أن يأذنا له بالجهاد
وجعل يبكى عندهما  ويقبل رأس أبيه , فمع شدة الإلحاح أذنا له  فتوجه إلى عمر , وأخبره أن أبواه قد أذنا   .. فأرسله عمر إلى الثغور
فمرت الأيام واشتد شوق الوالد إلى ولده
فقد كان يخدمه في كل شيء , يساعده في وضوءه , يقرب إليه طعامه , يمشي في حاجته , يؤانسه في مجلسه ,و يخدمه في كل أمره وشئونه
فاشتد شوق أمية  إلى ابنه كلاب , وصار أمية من شدة حزنه على ولده , لاتجف دمعته من البكاء عليه في ليل أونهار
حتى إنه جلس مرة تحت شجره فرأى حمامه تأتى إلى أفراخها
وتطعمهم فجعل ينظر إليها ويتذكر ابنه كلاب , وينشد قائلا  /لمن شيخان قد نشدا كلابا .... كتاب الله لو عقلا الكتابا
تركت أباك مرعشة يداه ..... وأمك لاتسيغ لها شرابا
فانك ولتامس الأجر بعدى .... كباغ الماء يتبع السرابا
ثم اشتد حزن أمية على ابنه كلاب حتى أصابه ما أصاب يعقوب عليه السلام
(وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ
الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)  فأصبح أعمى من شدة البكاء والحزن
وزادت آلامه واشتدت عليه الكربة , فجعل ينشد الأشعار
حتى أنه تعرض لعمر رضي الله عنه في اشعاره .. فقال
سأستعدى على الفاروق ربا .... له حج الحجيج إلى بساق
إن الفاروق لم يردد كلابا ...... على شيخين هامهما بواق
وجعل ينشد الأشعار
حتى قام أحد اصحابه فأخذه بيده وتوجه به إلى المسجد وهو أعمى  وفي المسجد عمربن الخطاب
قال له صاحبه يا أبا كلاب...  قال:نعـــم
قال: أنشدنا من أشعارك, فأنشد , قال : زدنا ’ فأنشد .. حتى قال مما قال
سأستعدى على الفاروق ربا ..... له دفع الحجيج إلى بساق
إن الفاروق لم يردد كلابا ..... على شيخين هامهما بواق
فسمع عمر رضي الله عنه , هذه الأبيات
فقال: من هذا؟؟ ... قالوا: هذا أميــه ابو كلاب
قال: ما خبره؟؟ قالوا: أرسلت ولده إلى الثغور .... قال: الم يأذن؟؟
قالوا: أذن له على مضض ( أي بعد الحاح ابنه)
فقام عمر مباشرة وتوجه إلى ديوانه فأرسل مباشرة إلى الثغور (أن ابعثوا إلي كلاب ابن أميه ابن اسكر الكنانى على دواب البريد)
فماهو إلا وقت قصير حتى كان كلاب بن أمية في المدينة  فدخل على عمر رضي الله عنه  ...  فقال: نعم يا أمير المؤمنين  .... قال: اجلس يا كلاب فجلس  ....
قال عمر :مابلغك برك بابيك؟؟ ( انت ماذا فعلت ماذا قدمت ماذا كنت تفعل مع أبيك , حتى وصل به الحال إلى هذا من شدة تعلقه بك ومحبتك)
قال: والله يا أمير المؤمين  ما اعلم شئ يحبه أبى إلا فعلته قبل أن يطلبه منى ولا اعلم شئ يبغضه أبى إلا تركته قبل أن ينهاني عنه ...
فقال عمر : زدنـــي .... قال : ياأمير المؤمنين والله انى لااقصر معه في بر أو إحسان ...
ثم أصبح يعدد ماذا كان يفعل لأجل ابيه
وذكر له كيف انه يحلب لابيه اغزر ناقة في الإبل وأطيبها لبن وكيف كان يغسل ضرعها وكيف كان يبرد اللبن لأبيه
       حتى تعجب عمر وقال : عجبا كل هذا لأجل شربه لبن... قال: وما سواه أعظم ياامير المؤمنين....
عندها أمر عمر رضي الله عنه أمر كلاب بأن يحلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ثم أمر به وأدخل في غرفة عنده
وامر بأحضار الأب امية الشيخ الكبير أبوكلاب ...
وبالفعل  ماهو إلا وقت قصير حتى دخل الأب  الشيخ الكبير  يجر خطاه-
 قد عظم همه وطال شوقه واقتربت منيته  واشتد حزنه  على ولده كلاب
فقال له عمر رضي الله عنه : يا ابا كلاب ماذا بقي لك من لذات الدنيا؟ ... قال: مابقى لي لـــذة...
قال أقسمت عليك أن تخبرني بأعظم لذة تتمناها في هذه الدنيا؟؟؟ ...
قال لاتقســــــــــــم ....
قال أقسمت عليك أن تخبرني؟؟؟ ....
 قال : أما إن أقستم علي .
فإني أتمنى والله أن أرى ابني كلاب بين يدي  أضمه ضمه واشمه شمه قبل أن أموت
قال سيسرك الله بولدك إن شاء الله
خذ هذا اللبن تقوى به ..  قال لاحاجة لي به  ... قال أقسمت عليك أن تشرب
فلما أخذ اللبن الشيخ الكبير الأعمى  وقربه ليشرب
انتفضت يداه , وانتفض جسده , وجعل يبكي
ويقول والله إني لأشم في هذا اللبن رائحة يدي ولدي كلاب
فبكى عمر رضي الله عنه . وقال : هذا كلاب عندك حاضر قد جئناك به
فوثب الأبن لابيه فضمه إليه حتى كأنهما قد خلطا في جسد واحد
و بكى عمر , وبكى الحاضرون وقال عمر رضي الله عنه : ياكلاب الزم أبويك , فجاهد فيهما مابقيا




أقول قولي هذا .. واستغفر الله , فاستغفروه
الحمدلله ,  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمد عبده و رسول الله
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا
عباد الله
لئن كان البر بالوالدين بهذه المنزلة العظيمة
فاعلموا أن عقوقهما من أكبر الكبائر.ومن أعظم الذنوب
فعن أبي بكرة  رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر
 الكبائر؟)) – كررها ثلاثا -  قلنا: بلى يا رسول الله،  قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين))
ومن عق والديه فقط حلت عليه اللعنة  ..قال صلى الله عليه وسلم: ((ملعون من عق والديه))
ومن عق والديه عجلت له العقوبة في الدنيا قبل الآخرة
قال صلى الله عليه وسلم  ((كلّ الذنوب يغفر الله منها ما شاء إلاّ عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات))،
وقال صلى الله عليه وسلم ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة , ولا يدخلون الجنة .. وذكر منهم العاق لوالديه)

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا بِرَّ وَالَدِينَا وَارْزُقْنَا بِرَّ أَوْلادِنَا اللَّهُمَّ ارْحَمْ وَالِدِينَا كَمَا رَبَّوْنَا صِغَارَاً , اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَارْضَ عَنْهُمُ وَعَنْ وَالِدِيهِمْ وَلِمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ ,   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ
لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ , رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّار , , اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا , وَأَصْلِحْ لَنا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا
مَعَاشُنَا , وَأَصْلِحْ لَنا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا , وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنا فِي كُلِّ خَيْرٍ , وَاجْعَلِ
الْمَوْتَ رَاحَةً لَنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ , اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ,
واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا ،وأصلح أئمتنا
وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك  , واتبع رضاك يا حي يا قيوم ياذا الجلال والإكرام.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

خطبة عن الغيبة

الحمد لله الوليِّ الحميد، ذي العرش المَجيد فعّال لما يريد، أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل
شيء شهيد، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو
أقرب إلى عبده من حبل الوريد. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالقول السديد والفعل
الرشيد وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والتوحيد ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوعيد
أما بعد، فاتقوا الله حقى التقوى ؛ فإن تقواه تجلِبُ المسرَّة، وتدفعُ المضرَّة، وترفعُ المعرَّة.
(: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
عباد الله
بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم نائما في مكة المكرمة قبل الهجرة
أتي بدابة بيضاء  يقال لها البراق  لونها أبيض وحجمها فوق الحمار ودون البغل وأما سرعتها
فتضع حافرها عند منتهى طرفه , فحمل عليها وسار بصحبة جبريل عليه السلام حتى أتى
المسجد الأقصى  في فلسطين , فربط الدابة في حلقة المسجد , ثم صلى بالأنبياء إماما , ثم عرج
به إلى السماء
فراى عجباً وسمع عجباً ومن ضمن ما رأى ............ رأى اقواما  يعذبون أنفسهم بأنفسهم

أقوام لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ)

فالحذر ياعبادالله من أكل لحوم الناس وغيبتهم
فالغيبة أمر قد حرمها الله ورسوله , وهي كبيرة من كبائر الذنوب
قد نهانا الله عزوجل عنها  فقال : يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ٱلظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنّ إِثْمٌ
وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ
فالله ينادينا بالإيمان ويقول  : يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ والمؤمنون مراتب
ويخشى على المغتاب أن يكون ممن آمن بلسانه , ولم يدخل الإيمان في قلبه
قال : "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ
فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ ولو فِي جوف بَيْتِهِ".
 رواه أبو داود وصححه الألباني
ثم ن الله عزوجل شبه المغتاب بالذي يأكل لحم أخيه المسلم وهو ميت
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ
"مثل الله الغيبة بأكل الميت؛ لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي إذا اغتيب لا يعلم
بغيبة من اغتابه".
فما أبشع ذلك المنظر! وما أسوأ تلك الصورة!
صورة ذلك المسلم المنهمك في أكل لحم أخيه المسلم الذي فارق الحياة.
عباد الله
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشهد على نفسه بالزنا وأنه قد أتى امرأة حراما
وقال للنبي صلى الله عليه وسلم , يارسول الله طهرني
فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجم بالحجارة فرجم
وفي اثناء الرجم سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه
، انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب،
فلما انتهوا وساروا
مر النبي صلى الله عليه وسلم بجيفة حمار شائل برجله، فقال: ((أين فلان وفلان؟)) يعني
الأنصاريين اللذين تكلما في الرجل ، قالا: نحن ذا يا رسول الله،
 قال لهما: ((كلا من جيفة  هذا الحمار)) فقالا يا رسول الله: غفر الله لك من يأكل من هذا!
فقال : ((ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفًا أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه
الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها)) رواه ابن حبان، وهو حديث صحيح.
فالأمر خطير جدا ايها المؤمنون , والغيبة أمرها خطير وذنبها عظيم , فلنحذر منها ونتوب
من الوقوع فيها

احْفَظْ لَسَانَكَ أيُّهَا الإِنْسَانُ *** لاَ يَلْدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعْبَانُ
كَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قَتِيلِ لِسَانِهِ *** قَدْ كَانَ هَابَ لِقَاءَهُ الشُّجْعَانُ
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة رضي الله عنهم كما عند مسلم
( أتدرون مالغيبة ) ؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال الغيبة: ((ذكرك أخاك بما يكره))
قالوا يارسول الله : أريت إن كان في أخي ما أقول، ( يعني مانقوله فيه صحيح
فنحن لم نفتري ولم نكذب عليه وكل مانقول فيه من عيوب وأخطاء ونقائص  هو واقع فيها)
فقال صلى الله عليه وسلم  ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)).
فيالله كم يقع كثير من المسلمين في الغيبة
هذه الغيبة التي هي سبب من أسباب دخول النار
كما في حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ

مَا فِيهَا يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ).

وفي رواية ( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغَ ما بلغت، يكتبُ الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه ) رواه مالك.

يبقى الله عزوجل ساخطا وغاضبا على هذا الرجل بسبب كلمة واحدة

فكيف بمن يتكلم الكلمات تلو الكلمات وحديثه كله غيبة وذكر مساؤى خلق الله
فالأمر خطير جدا أيها المؤمنون
فلاتستسهلوا إثم الغيبة , ولا تستصغروا شأنها , ولاتحتقروها
فذنبها عظيم، وخطرها جسيم، والله عزوجل يقول: وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ

وإذا كانت عائشة رضي الله عنها قد قالت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية أنه اكذا

وكذا , وقالت بيدها هكذا , يعني قصيرة , فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم

قال ( لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحرلمزجته ) رواه أبو داود.

فكيف لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعض مجالس المسلمين اليوم

وهي تفري في لحوم المسلمين , ولايطيب الحديث فيها عند البعض إلا بذكر عيوب الناس والتنقص منهم

عباد الله
كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر , ومن ضمن من كان معه

أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب  رضي الله عنهما , وقد استأجرا خادما يخدمهما , فلما

أصبحى في الطريق واستيقضا من النوم , فإذا بالخادم نائم لم يصنع لهم طعاما , فقال أحدهما

( إن هذا لنئوم ) فأيقضاه من النوم , ثم قالا له : إئت رسول الله .

وقل له  : إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما - يستأدمانك، ـ  أي يطلبا أيداما ليأكلا به الخبز

فانطلق الخادم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره

فقال له صلى الله عليه وسلم : أقرهما السلام، وأخبرهما أنهما قد ائتدما! ففزعا لما أخبرهم الخادم
بكلام النبي صلى الله عليه وسلم

، فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك

نستأدمك، فقلت: قد ائتدما. فبأي شيء ائتدمنا؟ قال ( بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إن لأرى
لحمه بين أنيابكما)) وفي رواية قال: ((إني أرى لحمه في ثناياكما)) فقالا ـ ـ فاستغفر لنا يا رسول الله، قال: ((هو فليستغفر لكما)) حديث صحيح.

أقول قولي هذا واستغفر الله












الحمد لله على إحسانِهِ، والشكرُ له على توفيقهِ وامتِنانِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لِشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رِضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

عباد الله

إن من يغتاب الناس , قد عرض نفسه لسخط الله وغضبه , ووقع فيما حرم لله عليه

وكذلك من يستمع الغيبة ويقرها
قال الإمام النووي رحمه الله:
 "اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها، يحرم على السامع استماعها وإقرارها، والله تعالى يقول في صفات المؤمنين: وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ [القصص:55]، ويقول جل جلاله: إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
وقد سئلت (اللجنة الدائمة للإفتاء) عن حكم سماع الغيبة؟ فأجابت: سماع الغيبة محرم؛ لأنه إقرار للمنكر، والغيبة كبيرة من كبائر الذنوب، يجب إنكارها على من يفعلها اهـ.
فليحذر المسلم من الغيبة ومن الأستماع إليها ومن حضور مجالسها
وليجتهد في الذب عن عرض أخيه ما استطاع
يقول  النبي صلى الله عليه وسلم

 ((من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار ))
 رواه أحمد والطبري وصححه الألباني .

وقال صلى الله عليه وسلم : (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة )
رواه الترمذي وصححه الألباني

وختاما نقول كما قال الإمام الشافعي رحمه الله
إذا أردت أن تحيا سليما من الأذى ................... وعيشك موفور وعرضك صين
لسانك لاتذكر به عورة امرئ ....................... فكلك عورات وللناس السن
وعينك إن أبدت إليك معايبا ..................... فصنها وقل ياعين للناس أعين